الإخلاص لله في العبادة

الإخلاص لله في العبادة

* الشيخ محمد علي الحاج العاملي

(.. فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110).
يُعتبر الإخلاصُ لله تعالى أساس الدِّين وجوهره، والمعيار في نيل الثّواب
والأجر. ومعنى الإخلاص كون الدّافع للقيام بالفعل هو نيل الثواب، أو خوفاً
من العقاب...، وعكس الإخلاص الرّياء، الذي يأتي بمعنى كون الدّاعي للفعل هو
إظهار القيام ببعض الأفعال من أجل أن يراه الناس، ويُظهر أنّ هدفه من
الفعل لهو التقرّب إلى الله، ولكنّه يُسِرّ عكسَ ذلك. وقد حدّد الإمام علي
(ع) علامات المرائي بقوله: "ثلاث علامات المرائي: ينشط إذا رأى الناس،
ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يحمد في جميع أموره".
ونيّة التقرّب إلى الله، مع كونها خالصة له، هي شرط في صحّة العبادات، كما
ويُفضّل تحقّقها في غير الأمور العباديّة، بل حتى في المباحات أيضاً، وقد
ورد في القرآن الكريم: (.. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...) (الزمر/ 2-3). وإظهار لموقع وأهميّة
الإخلاص قال أمير المؤمنين علي (ع): "الدّنيا كلّها جهل إلاّ موضع العلم،
والعلم كلّه جهل إلاّ ما عُمل به، والعمل كلّه رياء إلاّ ما كان مخلصاً،
والإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يختم له".
ويُسمّى الرّياء بالشّرك الأصغر، على إعتبار أنّ الداعي للعمل هو الله
تعالى والناس، أو أنّ الدّاعي ظاهراً هو القربةُ لله، وحقيقة الناسُ، وهذا
ما حذّر منه الرّسول (ص)، حيث يقول: "إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر،
قالوا: وما الشّرك الأصغر؟ قال (ص): الرّياء". وقد روي عن الإمام جعفر
الصادق (ع): "كلّ رياء شِركٌ، إنّه من عمل للنّاس كان ثوابه على النّاس،
ومن عمل لله كان ثوابه على الله".
وقد ذُكِرَ أنّ شخصاً ذهب للعبادة في المسجد طوال اللّيل، عازماً على
الإصباح فيه، وبعد أن جلس في إحدى نواحي المسجد وانشغل في العبادة، شعر
بوجود شخص آخر في ناحية ثانية من المسجد، عندها خطر بباله أنّ هناك شخصاً
يتعبّد مثله، فما كان منه إلاّ أن كثّف عبادته بهدف أن يراه الشّخص الآخر
في الصّباح، ويأخذ إنطباعاً عنه أنّه رجل عابد وتقيّ... وما أن طلع الصّباح
حتى نظر للطّرف الثاني من المسجد فتبيّن أنّ ما قد اشتبه به برجل عابد
أنّه كلب كان قد هرب من البرد، ولم يجد سوى المسجد ملجأً له.
وبالتالي فيكون هذا الشخص قد تعبّد للكلب، وأجره على الكلب، لا على الله
عزّوجلّ على قاعدة "إنّما الأعمال بالنّيّات". وفي رواية عن الرسول (ص):
"يؤمر برجال إلى النار، فيقول الله جلّ جلاله لمالك: قُل للنّار لا تُحرِق
لهم أقداماً، فقد كانوا يمشون إلى المساجد، ولا تُحرق لهم وجهاً، فقد كانوا
يسبغون الوضوء، ولا تُحرق لهم أيدياً، فقد كانوا يرفعونها بالدّعاء، ولا
تُحرق لهم ألسناً، فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن. قال فيقول لهم خازن
النار: يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا: كنّا نعمل لغير الله عزّوجلّ فقيل
لنا خذوا ثوابكم ممّن عملتم له".
الرّياء قد يكون في العقيدة (وذلك حين إظهار معتقد لا يؤمن به، كي يرتفع
بنظر الناس)، وقد يكون في العبادة (كما إذا لم يكن يصلّي أمام الناس فقط،
أو أنّه يتخشّع في الصلاة ويطيلها من أجل أن يراه الناس). وفي الحديث عن
الإمام علي (ع): "المرائي ظاهره جميل، وباطنه عليل". وقد قيل:
ثوبُ الرّياء يشفّ عما تحته **** فإذا التحفتَ به فإنّك عاري
وأمّا ما يدعو الناس للرّياء، فإنّه حبّ الجاه (وغيره أيضاً) كما في تلك
القصّة المعروفة، بالنسبة للشخص الذي كان يرتاد المسجد ويكون أوّل من يدخله
وقت الصلاة، وآخر من يغادره بعد إنتهائها، وكان يصلّي في الصّف الأوّل،
وقد واظب على هذا الأمر لمدّة ثلاثين سنة، حتى اضطرّ في إحدى المرّات
للتأخّر بعض الشيء، فحضر الجماعة مصلّياً في الصّف الأخير، وبعد إنتهاء
الصلاة أصابه شيء من الإنزعاج لكونه لم يكن في الصّف الأماميّ، ورأى الناس
تنظر إليه، وقد خجل من هذا الموقف، وبعد ذلك تمعّن جيِّداً بما حصل له،
وبالأسباب، وبخلفيّة هذا التفكير، فتبيّن له أنّ صلاته في الصف الأمامي
لمدّة ثلاثين سنة كانت رياءً؛ ممّا جعله يعيد ما فاته من الصّلاة جماعة.
وهناك قصّة تُنقل عن شخص شارك في حرب ضدّ الكفّار في عهد الرسول (ص) فرأى
شخصاً كافراً يركب حماراً أبيض، فأعجبه، فما كان منه إلاّ أن خطر بباله أن
يقتل الكافر ويأخذ الحمار. فهجم على الكافر بهذه الخلفية، وفي الوقت الذي
عزم على ضرب الكافر، فما كان من الكافر إلا أن ضربه وقتله. وقد عُرف فيما
بعد بقتيل الحمار، على إعتبار أنّ هدفه فيما أقدم عليه لم يكن قُربة إلى
الله، أو من أجل الجهاد في سبيل الله، بل بدافع الإستيلاء على الحمار. وقد
ورد عن الإمام علي (ع) أنّه قال: "من أخلص النّيّة، تنزّه عن الدّنيّة".
وللإخلاص فوائد كثيرة، منها ما جاء عن النبي (ص): "مَن أخلص لله أربعين يوماً، فجّر الله ينابيعَ الحكمة من قلبه على لسانه".
المهمّ أنّ علينا الإلتفات جيِّداً لخلفيّة تصرّفاتنا، والتدقيق بها
مليّاً، لأنّ هناك الكثير من الناس الذين يحتاجون لجهد كبير لمعرفة أنّ كون
أفعالهم ناشئة من أهداف أخرى غير القربة لله سبحانه وتعالى.