إعتذار صعب (قصة قصيرة)

إعتذار صعب (قصة قصيرة)
إعتذار صعب (قصة قصيرة) Health.419526

يقولون إنّ المشاحنات هي ملح الحياة المشتركة، وإن الصلح الذي يعقب الخصام هو ألذ من السلام الدائم الباهت. وقد اختبرت هذه الأقوال وتجارب من سبقوني، على الرغم من أنني لم أتزوج بعد، ووجدت أنّهم كانوا على حق. إنّ إبتسامة خطيبتي ساهرة تشرق بأروع ما يكون بعد أن يكون وجهها مكفهراً ودمعتها معلقة على طرف هدبها. ما أجمل الشمس تطل من وراء الغيم!
سبعة شهور من الخطبة تخاصمنا فيها سبعين مرّة. أي بمعدل زعل واحد كل ثلاثة أيّام. هل أنا شاطر في الحساب؟ وبعد كل جفوة، كان هاتفي يرن وأرى اسم ساهرة مضيئاً على شاشته الصغيرة، وكنت أتردد وأترك الموسيقى تنساب قليلاً، ثمّ أكبس على الزر وأسمع تنهيدتها الناعمة: "أما زلت غاضباً؟ طيب.. حقك عليَّ يا سيدي"! من أين تأتي خطيبتي بكل هذه العذوبة والرقة؟ وكيف تسمح لنفسها، وهي في أوّل عهدها بالتربع على عرش قلبي، بأن تبادر إلى رأب الصدع وأن تتنازل وتهاتفني؟ أقول لنفسي إنني سأكون سبّاقاً إلى إرضائها في المرّة المقبلة، بل أعاهدها ألا تكون هناك خصومات مقبلة.. وأراها تبتسم بنبل الملكات، وتنظر نحوي تلك النظرة المعاتبة الساخرة التي تعني: "الأيّام بيننا..".
لماذا تنتفض كرامتي في كل مرّة تمتد فيها يدي إلى الهاتف، لكي أكون أنا الساعي إلى المراضاة؟ كيف أتكبر وأتجبر على أعز إنسانة إلى روحي، حتى ولو كنت أنا المذنب ومستحق العقاب؟ إن سماحة خطيبتي تجعلني أبدو ساذجاً مقارنة بلطفها وحنكتها. إن عقلها أكبر من عقلي بالتأكيد، والدليل هو أنني أتصرف مثل ولد أرعن، بينما تتصرف هي مثل كائن لا يعرف النزق والرعونة. هل قلت، في أوّل الكلام، إنها تبتسم من طفولتي.. بنبل الملكات؟ عما قريب سأتزوج ساهرة، حبيبتي التي زرعت راياتها داخل شراييني، راية بعد راية وشرياناً بعد شريان، على مدى سبعة شهور. وأنا خائف من ألا تكون مشاكسات فترة الخطوبة مثل مشاحنات الحياة الزوجية. إن تدلل العاشقين أحلى من العسل، أما نكد المتزوجين فلاشكّ في أنّه مر وعسير على الهضم. لماذا أنا خائف؟ أمن ساهرة أم من نفسي؟ وهل ستوافق زوجتي على إحتمال طبعي النزق، بعد أن تصبح أميرة بيتي وحاملة أسمي؟ قبل أيام سمعت منها إنذاراً ساقته لي على سبيل المزحة. لقد أفهمتني أن طول بالها ليس عادة ثابتة لديها. قالت: "صبري ليس وحمة ولادية". فهل قصدت أنّ للصبر حدوداً؟ وماذا سيحدث إذا انقطع حبل صبرها ولم تعد تهتم إذا رضيت أو غضبت؟ سنكون في بيت واحد، وفراش مشترك، ولن تكون بيننا هواتف تقوم بدور سفراء النوايا الطيبة. إن ساهرة عروس جديدة، ومن حقها أن تتمترس وراء عزة نفسها. أما أنا فأشعر بالإرتباك إزاء مشاحناتنا الصغيرة التي قد تكبر بعد الزواج.
* حبل الصبر قصير
قالوا له إنّ الزعل بين الحبيبين مثل العسل، فصدقهم! قالوا إن التراضي بعد الخصام يجدد الرتابة ويبث دماء جديدة في العلاقة الزوجية. وكان عادل، خطيبي، ميالاً إلى المشاحنات فوافق على تلك الآراء وآمن بها. يا له من رجل ساذج، يغضب مثل الأطفال ويحرد ويذهب ليجلس في الزاوية، ماداً بوزه أمامه، لكي أذهب إليه وأقبّل رأسه وأبتسم له بحنان الأُمّهات الطيبات. هل أحبني عادل وتعلق بي لأنني أنضج منه وأكثر ثقة وثباتاً؟ لا أدري، لكنني واثقة بأن نزقه هو الذي جذبني إليه وأرغمني على حبه. إن فيه تلك البساطة التي أصبحت عملة نادرة في البشر، وفي الرجال بالتحديد. وأنا عندما أنظر إلى عادل، فإنني أقرأ ما في رأسه مثل كتاب مفتوح، وأعرف مسبقاً كيف ستكون ردة فعله على تصرفاتي وأحاديثي، وأهجس باللحظة التي سيبتهج فيها ويقهقه، وباللحظة التي سيغضب فيها ويمضي وهو يبربر. يا إلهي ما أطيب بربراته!
منذ سبعة شهور وأنا ألعب لعبة القط والفار.. من كر وفر.. شد وجذب.. إقبال وإدبار.. وهو سعيد مثل صبي في "ديزني لاند". ما إن يترجل، ذاهلاً، من لعبة تحبس الأنفاس حتى يجد نفسه واقفاً ينتظر دوره في لعبة أكثر خطورة وتشويقاً. هل أنا قاسية إلى هذه الدرجة، وشيطانة، وفتاكة؟ أم أنني أبسط أمامه الألوان التي تجعله سعيداً ومشغولاً ومتعلِّقاً بي؟ أنا أهوى الرسم ومهنتي التلوين. وها قد ساق لي القدر خطيباً قليل التجارب مثل خامة بيضاء. فما المانع من أن أجرب عليها تخطيطاتي وأداعبها بضربات فرشاتي؟
حين يخاصمني، بعد أن أبالغ في تدويره كحجر الرحا، يبقى مضطرباً ومهموماً في إنتظار أن أتصل به وأعيد وصل ما انقطع. وأكاد أسمع سعادته تزغرد في الهاتف، وأكاد أرى ريشه مفروداً من الزهو مثل ديك "هراتي"، لأنّه حافظ على كبريائه وأجبرني على المبادرة إلى الإتِّصال. مَنْ قال له إنّ صراع الديكة قد بدأ؟ نحن مازلنا في المشاهد التمهيدية والفيلم لم يبدأ بعد. إنّ الموعد آت خلال فترة وجيزة، وعندها لن تكون هناك نفس أعز من نفسي، ولا كبرياء أسمى من كبريائي. لقد نوهت لعادل بهذه الأفكار، وأظنه التقط المعنى والمغزى، لذلك يبدو مثل قط في ورطة.. يحفر في الرمل من دون داع. أمّا أنا فقد صبرت عليه بما فيه الكفاية وحبل الصبر قصير. لقد آن لهذا الطفل أن يكبر على يدي.

إعتذار صعب (قصة قصيرة) 1