THF Admin
عدد الرسائل : 4613 تاريخ الميلاد : 11/10/1984 العمر : 40 البلد و المدينة : Algeria - Bouira - Palistro العمل/الترفيه : Maintenance system informatique - MSI المزاج : في قمة السعادة السٌّمعَة : 5 نقاط : 2147483647 تاريخ التسجيل : 16/08/2008
| موضوع: حب أسود / قصة قصيرة الأربعاء يوليو 14, 2010 1:38 pm | |
| حب أسود/ محمّد عبدالرحمن الجزمي عُمان اسمها الحاجّة مريم. هي امرأة كبيرة في السن. مريضة. راقدة على سريرها تنتظر الموت منذ سنوات، وهو يأبى أن يأتي. رحل عنها زوجها منذ خمس سنين. ولم يكن لها أبناء يؤنسون لها وحدتها. فقد كانت منذ شبابها امرأة عقيماً. ولم يرضَ زوجها أن يتزوّج عليها بأخرى. حتى لا يلهيه شيء أو أحد عن حبه لها. فقد كانت شمعة لا تنطفئ في قلبه. وأي حركة في جوارها كان يخشى أن تطفئ تلك الشمعة. لذلك، لم يتزوج بأخرى، على الرغم من أنّه كان تواقاً إلى الولد، شأنه شأن أي رجل. ظل الزوج مخلصاً لزوجته حتى مات على حين غرة، من دون حتى أن يتيح لها القدر أن تودعه. سافر إلى الحج. وما إن أنهى الفريضة، وطاف طوافه الأخير، حتى مات ودفن هناك ولم تودعه. بكت كثيراً. لكن عزاءها أنّه مات في أشرف بقعة على الأرض.. مكة المكرمة. هي امرأة كبيرة في السن. رحل عنها كل من تعرفهم، فإذا ما تلفتت حولها الآن، وجدت نفسها بين جيل آخر جيل لا يحمل تفكيرها، ولا يتصرّف تصرّفها، ولا حتى يتحدّث حديثها. كل شيء تغيّر من حولها، وكل شخص كأنّه مخلوق آخر قدم من مكان آخر غير هذه البيئة التي تحياها الآن. لو كانت معيشتها الآن تسمى حياة، كم بلغت من العمر؟ لا أحد يدري بالتحديد عمرها. هي ذاتها لا تدري. منذ زمن بعيد، قامت الحكومة بتسنينها وتم تحديد عمرها التقريبي. وكان زوجها قد أعد لها أوراقاً رسمية حينها، وجوازاً خاصّاً بها، لكن كل هذه الأوراق ذهبت أدراج الرياح، ضاعت ولم تعثر عليها قط. هي لم تعد في حاجة إلى أي منها الآن. ولم تعد في حاجة إلى معرفة سنها الحقيقية. يكفيها أنّها على مشارف الموت. والموت لا يعرف عمراً ولا سناً. هي الآن راقدة على سريرها، يزورها الناس والجيران ممن يعرفونها وتعرفهم. الشيء الذي يميّزها أنّها ذات ذاكرة عجيبة. فعلى الرغم من سنوات عمرها إلّا أنّها، ما شاء الله، تتذكّر أدق التفاصيل.. حتى طفولتها تتذكّرها بدقة عجيبة. ابتسام لم تكف عن زيارتها منذ زمن بعيد. فهي تتردّد عليها كل يوم. تزورها وتلبي لها حوائجها، وتخدمها كما لو أنّها أُمّها. أم ابتسام كانت صديقة الحاجة مريم الصدوق. لذلك قبل أن تموت أوصت ابنتها بهذه المرأة كبيرة السن. سألتها وهي تتناول طعام العشاء في تلك الليلة: - "ألم يحن الوقت بعد يا ابنتي؟". - "يحين الوقت لماذا يا جدة؟". - "أن تتزوجي.. أنت ما عدتِ صغيرة. ولقب "عانس" لا أظنك تسعين إليه.. عشرات الرجال جاءوا لخطبتك. لكنك ترفضينهم الواحد تلو الآخر.. لست أفهم سرّ هذا الرفض. لكن من المحتمل أنّ هناك من يستعمر حياتك. وهو يأبى أن يتقدم لخطبتك.. هل ما أراه صحيح؟". صمتت ابتسام ولم تعقب. الحقيقة أن كلام الحاجة مريم صحيح تماماً. لكن الحياء يمنعها من الإفصاح عن هذا الحب. هناك رجل فعلاً.. هناك طارق الذي لم يتقدّم لخطبتها بعد. هي تنتظره. لكنه لاهٍ بأشغاله ولا ينظر إليها.. بل لا ينظر إلى مسألة الزواج على الإطلاق.. وهو أمر يقضُّ مضجعها حقاً. قالت الحاجة مريم: - من ملامحك أرى إجابة سؤالي.. هناك رجل في القلب.. ولكن اسمعي مني يا ابنتي.. قطار العمر لن ينتظرك كثيراً.. المحطة ستنطلق صفارتها بين لحظة وأخرى. ولسوف ينطلق القطار من غير رجعة.. عندها لن ينفعك هذا الحبيب.. انسيه يا فتاة.. انسيه والتفتي إلى نفسك.. تزوجي بأقرب رجل أمامك ولا تضيعي المزيد من الفرص.. الزواج بالنسبة إلى المرأة يا ابنتي مثل صيد السمك.. لو تركت كلّ الأسماك القريبة، منتظرةً تلك السمكة الكبيرة البعيدة حتى تقترب؛ فإنّك لن تظفري ولا بسمكة واحدة. سوف تغيب الشمس، ولسوف تعودين إلى منزلك من غير صيد.. عي هذا جيِّداً. وصيدي أقرب سمكة. واتركي ذلك الحبيب الذي لن يأتي. حينها خرجت ابتسام من منزل الحاجة مريم وهي شاردة تماماً.. مشكلة الحب أنّه لا يؤثِّر فقط في القلب.. ولكن في العقل أيضاً! ثمّ لمحته فجأة.. كان في طريقه للخروج متجهاً إلى سيارته. اقتربت منه قائلة: - "طارق.. كيف حالك. وكيف حال والدتك؟ سمعت أنّها مريضة.. هل تحسنت؟". كانت تبحث عن أي موضوع لمحادثته. وعلى الرغم من أنّها لم تسمع أن والدته مريضة. ولكنّها كانت تبحث عن أي موضوع لمحادثته.. قال لها وهو يستقل سيارته، ويدير محركها: "هي بخير.. لم تمرض ولله الحمد.. مَن أخبرك بذلك كذب عليك.. شكراً لك على سؤالك". كانت قد قررت أن تصارحه بحبها له.. ما دامت السمكة الكبيرة لا تقترب منك، فلتقترب أنت منها إذن.. هكذا تضمن وصولك إليها كلّ الضمان. الفتيات الللواتي يخجلن لن يظفرن بمن يحببن.. الفتاة التي تتلعثم كلّما وقفت تخاطب حبيبها لا أمل لها في أن يحادثها وينظر إليها.. قررت أن تضرب الحديد وهو ساخن.. ما داما الآن هنا في الشارع. وليس بقربهما أحد، إذن لتنبذ كل خجل من نفسها، ولتصارحه مباشرة: - طارق.. هل لي بكلمة؟". - "أنا على عجلة من أمري.. ربّما في ما بعد". - "إن هي إلّا كلمة واحدة.. سؤال واحد فقط.. لن أؤخرك". في نفاد صبر سألها: - "هاتي ما لديك.. هيا". هنا استجمعت كل شجاعتها، ونفضت كل خجل في كيانها، وقالت وهي تجاهد نفسها ألّا تركض من أمامه. وقالت له بصوت مرتجف: - "هـ.. هل.. تـ.. تتزو.. تتزوجني؟". صمت الفتى لبرهة.. الحقيقة أن جرأتها قد صدمته بالفعل.. لكنّه امتص الصدمة بسرعة. وقال لها بصوت خلا من أي تعبير أو أحاسيس: - الحقيقة أنّك أختي يا ابتسام". قالها وانطلق بسيارته على الفور.. بلا أدنى إحساس. تجمد الدمع في عينيها، وبكى قلبها بشدة، وهتفت بصوت حمل كل انفعالها: "أنت حقير.. لتعلم ذلك أيّها المتعجرف". لكن صوتها لم يصل إليه. فقد كان قد ابتعد عنها تماماً. وكانت قد بقيت في الشارع المظلم وحدها.. لكنّها استدركت في صوت هامس: - "لكني أحبك ولسوف أجعلك تحبني قريباً"، ثمّ في سعادة، عادت إلى بيتها والفرحة لم تكن تسعها، فقد كان عقلها قد أعد لطارق خطة صيد لن يفلت منها أبداً. التقيا بعد فترة، خاطبها قائلاً: "ابتسام.. كيف حالك؟". "بخير حال.. هل من شيء؟". كان متردّداً وهو يتحدّث: "في الحقيقة إن.. إن والدتي تسأل عنك.. هي تتساءل عن سبب عدم زيارتك لها منذ فترة.. هل من شيء بدر منا؟". ابتسمت بينها وبين نفسها. وقد علمت أنّه يكذب.. هو يبحث عن حوار ليصنعه معها.. هي كانت تقوم بهذا الشيء معه منذ سنوات. وكان هو يتجاهلها.. وهو الآن يحاول اللعب باللعبة ذاتها معها.. ولكن هيهات أن يخدعها وهي التي تمرست بهذه اللعبة.. فضلاً عن أنّها كانت مع والدته منذ ساعتين. فكيف تسأل عنها وتعاتبها على عدم زيارتها لها؟ هو يكذب حتماً. قالت وهي تبتسم: "ما من شيء.. فقط مشاغل الدنيا". ثمّ همّت بالانصراف. عندها صاح يقول لها: "ابتسام.. بخصوص ما قلته لي بالأمس.. ليلة أمس.. الحقيقة إني فكرت في الموضوع. و...". قاطعته متسائلة. وهي تحاول العبث معه: "عن أي موضوع تتحدّث؟ أنا لا أفهمك". "ليلة أمس.. حينما سألتني سؤالاً لكني لم أجبك عنه.. الحقيقة أنّني فكرت طويلاً. ووجدت أنّه من الممكن أن.. أعني أنني أريد أن..". لكنّه لم يكن متمالكاً نفسه.. بعد ذلك، باتا يلتقيان كثيراً.. ثمّ قللا لقاءاتهما شيئاً فشيئاً، حتى طلبها ذات يوم للزواج.. فرحت كثيراً. بل لقد بدت وكأنّها قد انتقلت إلى دنيا غير الدنيا التي هي فيها. وأنّها وُلدت من جديد.. غير أنّها أرادت أن تعبث معه قليلاً. فلم تخبره بموافقتها على الزواج مباشرة. "ليس الأمر بهذه البساطة.. سأفكر في الأمر". "لكني كنت أظنك تحبينني.. أنت طلبتِ ذات يوم مني الزواج قبل أن...". "هذا لا يمنع أنّه لابدّ من أن أفكر أوّلاً" قالتها وابتعدت عنه. وهي تكاد تطير فرحاً. اتجهت مباشرة إلى الحاجة مريم. وقبلتها بين عينيها وقالت لها: "لقد اصطدت السمكة الكبيرة يا جدة.. لقد أوقعته في حبالي". ابتسمت الحاجة مريم وقالت: "فعلاً.. إن كيدكن عظيم.. لن أسأل كيف تمكنت منه. ولكن من هو؟ أعرفه؟". "وكيف لا؟ هو أقرب لك مني.. إنّه طارق.. ابن جارتك فتحية أم عدنان". هنا اكفهرّ وجه الحاجة مريم. وهتفت في روع: "يا إله السماوات! أما وجدت غيره لتحبيه؟ هو من دون كل رجال العالم؟ مَنْ كان يتصوّر أن يحدث هذا؟ مَنْ كان يتصوّر هذا؟". هوى قلب ابتسام بين رجليها. وقد شعرت بالأمر عظيماً وهي تهتف: "ما الأمر يا جدة؟ ما بك قد تبدل وجهك إلى الكراهية.. الشاب ما يسوؤه شيء. ولا يعيبه عيب. ولطالما كان طيِّب الذكر على لسانك.. فما الذي تبدل؟". صمتت طويلاً. ولم ترد عليها.. ثمّ أغمضت عينيها وقالت: "ما ظننت أنّه سيأتي اليوم الذي سأخبرك بهذا الخبر يا ابنتي.. ولعله خبر يقصم لك ظهرك. لكنّها الحقيقة المرّة التي عليك تقبلها.. وإنني أحمد الله تعالى أنّ الزواج لم يتم بعد، وأنّكما ما زلتما في برّ الأمان". "ما الأمر يا جدة؟". "إن طارق هو أخوك يا ابتسام. أخوك من أب واحد. على أنّ الخلافات تحصل بين الأزواج. والطلاق أبغض الحلال.. لكنّه وارد في كل بيت. وتحت كل سقف.. طلق والدك أُم طارق. وتبرأ منها ومن ولده. وأوصى بأنّه لا صلة بينه بعد اليوم وبين هذه الأُم وابنها.. وهكذا تربيتما لا يعرف أحدكما أنّ الآخر أخوه". كانت صدمة عنيفة في نفس ابتسام. التي بكت وهي تصيح: "اي كلام هذا؟". دامعة العينين، قالت الحاجة مريم: "إنّها الحقيقة يا ابنتي. وقد مات كل من يعرفها إلّا أنا.. وكنت قد أقسمت أمام أُم طارق بأني لن أخبر أحداً بالأمر. لكن الوقت قد حان لأن تعرفها الحقيقة. وأحمد الله تعالى أنني أخبرتك بها قبل أن أموت. فتضيع الأنساب. وتتداخل الأنسال". "ستموتين مرتاحة الضمير يا جدة.. ولكن من يريح ضميري أنا؟". "ماذا تعنين يا ابنتي؟". لكن ابتسام لم تجبها. بل خرجت دامعة العينين لا تقوى على كبح جماح حزنها. ثمّ رأته، كان واقفاً بالقرب من باب بيتها. وكان يبتسم في حب، حب مشوب بالسحر الأسود اللعين. قال لها وابتسامة سوداء على شفتيه: "جئت أسمع منك ردّاً على طلبي منك بخصوص الزواج.. هل فكرتِ فيه؟". نظرت إلى ملامحه.. كل شيء فيه أسود.. السحر قد لطخه فلم تعد ترى في وجهه سوى السواد.. كل شيء أسود.. صرخت في وجهه: "لا زواج". صدمه الجواب. دمعة سوداء خرجت من عينيه وهو يهمس: "ولكن...". بكت وهي تصيح: "لا يمكن.. أنت أخي". هو يعرف هذه النغمة.. جربها معها سابقاً. قالها مراراً ليصدها عنه. هي الآن تحادثه بالنبرة ذاتها.. قالت له: "أنت أخي.. والأخوة لا يتزوج بعضهم بعضاً". قالتها وركضت تدلف غرفتها. ودموعها تسبقها. كم ظلمته! الآن هو يتعذب.. يتألم.. سيتحطم.. لقد جعلته يحبها.. والآن تصده ولا تريده. تخبره بأنّه أخوها. لكنّه لا يفهم.. لم يبدُ عليه أنّه يفهم. طرق الباب. لكنّها لم تفتح به. ولم تجبه. قال من خلف الباب. فبدا لها صوته ذا لون أسود: "(ابتسام).. أنا أحبك! وأعلم أنّك تحبينني.. فلماذا تصدينني؟". لكنّها لم تجبه. بل استندت إلى الباب وظلت تبكي.. تبكي.. تبكي. | |
|