المدينة الساحرة..قصة قصيرة

المدينة الساحرة..قصة قصيرة
وقف سيف على أطلال ذكرياته وراح يتأمل في ماضي الحضارات، ومغامرات الإنسان
الأول على هذه الأرض التعيسة، فتبدت له صور الأدغال المسكونة بالجن
والوحوش، وتراءى له الإنسان هو يعيش بينها، ويتعلم منها الشراسة والحيل
ليواجهها، ويتغلب عليها.
كان الإنسان آنذاك، لا يملك غير حجر مسنن، أو خشبة قوية يدافع بها عن
بقائه، إضافة إلى يده وعقله، اللذين طورا سلاحه من الحجر إلى القوس والرمح
والسيف، ثم روض الحيوانات لتساعده على الحياة وتخفف من شقائه. تذكّر سيف
قصة قابيل وهابيل، كما تذكر قصة يوسف وإخوته، ومن تلاهم من قتلة وضحايا.
وقفزت به الذكريات إلى عصرنا الحديث، فراح يقارن بين الكهوف وناطحات
السحاب. غير أنه رأى أن شريعة الغاب مازالت باقية كما كانت، على الرغم من
كل ما تتبجح به الحضارة، على الرغم من التقدم الذي غزا فيه الإنسان الفضاء،
وسبر أعماق المحيطات، وحوّل الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، بل إلى قنبلة
موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، فتؤدي إلى فناء الحياة على هذا الكوكب
الجميل. وبينما كان سيف مستغرقاً في تأملاته الحزينة، فوجئ بابنة جيرانه
(بدرية) تقترب منه مبتسمة وتقول: "ماذا لديك أيها الفيلسوف التعيس؟ لا بد
أن أفكاراً جديدة تسيطر عليك، تريد بها أن تغير العالم؟".
تصنّع سيف الابتسامة، استقبلها بلطف من دون أن يرد عليها، فأردفت قائلة: ما
"بالك يا سيف؟ من يراك يظن أنك تحمل كل مصائب الأرض وتسير بها إلى مصيرك
المشؤوم؟". قال سيف: أنا كذلك يا بدرية. إن هذا العالم الواسع يحاصرني
كزنزانة، وأنا فيها المجرم الوحيد، وكل سكان هذه الأرض قضاة وجلادون يريدون
الثأر مني وما من شفيع. وما الذي يجعلك تحس هذا الإحساس؟ أجاب: العلم يا
صديقتي. "ماذا تقول؟"، أضاف: "العلم. نعم، العلم. إنه سبب شقائي وشقائك
وشقاء الجميع. لم يسلم منه أحد، حتى الجمادات أصبحت تعاني كوارثه وبات يهدد
وجودها. انظري إلى الماء الذي نشربه، أليس ملوثاً؟ وما شأن الهواء الذي
نستنشقه؟ والطعام الذي نتناوله؟ تأملي في مياه الأنهار والغيوم والمحيطات،
وطبقة الأوزون وكل ما يحيط بنا من عناصر لها علاقة بالحياة. بل انظري إلى
عقولنا الملوثة، وضمائرنا المسممة ومشاعرنا المزيفة. حتى الثياب التي
نلبسها، والدواء الذي نتناوله، كلها ملوثة، وكلها تنذر بالفناء. كل ذلك
بسبب عطرسة العلم وأفيون الحضارة الحديثة. سألته: "وما شان هذه الحدائق
والمدارس والمستشفيات والكهرباء والهاتف والأجهزة الحديثة المدهشة، ووسائل
النقل المتطورة التي أراحت الإنسان وأخرجته من عالم الفقر والجهل ونقلته
إلى عالم الرقي والازدهار؟". أضافت: "دعنا من هذه الأفكار السوداوية، وتعال
نتنزه في مدينة العين الساحرة الجميلة المليئة بالورود. إنها من أجمل مدن
الدنيا. فيها الماء، وفيها الخضرة والوجه الحسن، وفيها براءة الإنسان
وبساطة العيش". قال: دعيني من المدن والحياة فيها. إنها صماء عمياء لا تعرف
الحنان ولا الرحمة. الناس فيها غرباء يعاملون بعضهم كالسلع أو كالعبيد.
قالت: "أمامك البادية، لماذا لا تأخذ خيمة وتعيش فيها مع البدو والرحّل. في
البادية البساطة والحب والأصالة، وفيها الصفاء والنقاء". ابتسم سيف ثم
قال: لقد غزت الحضارة الإنسان في البادية وفي الريف أيضاً، والمدينة وشوهت
حياته وقناعاته، فغدا أكثر حقداً من الأفاعي، وأشد دهاء من الثعالب، وحوّل
كل شيء إلى..... تابعت: "دعني من قناعاتك المخيفة وحججك المرعبة. إنك تكاد
تكرهني في الحياة وأنا في مقتبل العمر. إن بلادنا من أجمل البلدان، وشبابنا
أجمل الشباب، والحياة فيها مفعمة بالحرية والأمل والمحبة". وقالت: "لو لم
أعرفك جيداً لقلت إنك مدسوس بيننا لتزرع اليأس في نفوس الشبان والشابات.
الوداع يا صديقي المتشائم. أهنئك على أفكارك الجهنمية. لن أعود أليك حتى
تعود إلى نفسك".
نظر سيف إلى بدرية بأسى، وقال لها: حتى أنتِ يا بدرية؟! ليتكِ ترين ما أراه
من دون أن يؤثر ذلك في تفاؤلك. لن ألومك أبداً، فأنت تعيشين في برجك
العالي بعيداً عن هموم الناس. ولابدّ أن يأتي يوم تفهمين فيه كلامي.
ودّع سيف بدرية، وعاد إلى تأملاته المؤلمة قائلاً: يا للجَمال المشوّه؟
ماذا يستطيع رجل ضعيف مثلي أن يفعل لتغيير هذا الواقع؟ أضاف: لابدّ لي أن
أتغير أنا لأتلاءم مع هذا الواقع. لابدّ أن أشرب من نهر الجنون لأتلاءم مع
هذا الجنون الحضاري. ولكن ذلك مستحيل. ما الحل إذن يا سيف؟ سمع صوتاً يهمس
في أذنه، يقول له: "سافر بخيالك المتفائل إلى ما وراء الطبيعة. قد تجد هناك
مكاناً لك". قام سيف وتوضأ وراح يصلي ويدعو ربه أن يجعله من سكان مدينة
ليس فيها ظلم ولا شقاء. بقي على ذلك إلى أن أحس بإرهاق ونعاس شديدين، فذهب
إلى غرفة النوم واستلقى في فراشة وراح يغط في نوم عميق. وما هي إلا دقائق
حتى رأى نفسه في مدينة غريبة، ثمارها من أشهى الثمار، ومنظرها من أجمل
المناظر، والأصوات فيها تبعث المسرة والأمان، والطعام لا يحتاج إلى طهو،
والإنسان ينال ما يريد من دون عناء أو حاجة إلى السؤال. العملة الدارجة
هناك، هي الكلمة الطيبة والصلاة على الأنبياء. أحس سيف بالسعادة المطلقة،
وراح يتعرف ويستكشف مدينة أحلامه، التي يبحث عنها منذ أن تفتحت عيناه على
هذه الدنيا، مدينة لا خوف فيها ولا فقر ولا تمييز، حيث جميع الناس متساوون
ولا يتدخل أحد في شؤون غيره. لكن كل واحد يعيش وحيداً كأنه في عالم آخر.
النساء في غاية الجمال، ولكنهن سمينات خاملات مترهلات من كثرة الرفاهية،
وليس لديهن ميل إلى الرجال. لا أحد من الشبان يميل إلى الزواج، ولا توجد أي
فتاة تبوح بسرها لشاب. العواطف باردة، والأحاسيس متجمدة، والصمت لغة
الجميع. أما العمل، فمعدوم. الجميع بلون واحد وبمستوى واحد. أحس سيف
بالاختناق. خاف كثيراً، صاح بأعلى صوته: يا الله، أعدني إلى مدينتي. فالنار
فيها خير من هذه الجنة. وهبَّ من فراشة كالمجنون، وإذا به في قلب مدينته،
التي رجع إليها من منامه كما يرجع الطفل الضائع إلى بيته وأهله.